هي أنثىٰ خجولة.. خانها عاشقوها وما تزال تفوح عطر كبريائها، هي الجنّة والقصيد وأنشودة المطر.. هي موسيقىٰ مسابح العقيق ورائحة الياسمين وصوت نوافير الفسيفساء.. هي سُحب القرنفل والقرفة حين ينهمر الصّباح.. هي البيان والتّبيين.. بها يبدأ وينتهي التّكوين.
هي عشق الفرشاة لألوان الحُب، إليها تهفو القلوب وتخفق الأكباد ولها يتشقق الزّهر، والنّدى بها يترقرق.. هي سحر الشّعراء وموطن الأنبياء والأتقياء، باهرة العلماء وكنز الأحلام.
عشْقُها طواعيةٌ سرًّا وعلانيةً، هي عناق الجامع والكنيسة، وطن الصّفصاف والبساتين والسّنابل وزخّات المطر.. هي روعة الأغنيات وروضة الفاتنات ترىٰ فيهن أطياف الحوريات في الفراديس، بلاد التّين والزّيتون والأَرز والصّنوبر والبلوط.. بلد الحواري العتيقة المعبّقة برائحة القهوة واليانسون والنّرجس والرّمان والأضاليا.
بيوتها الدّافئة العاشقة تتبادل الزّيارات في السّر ليلًا، هي خيرة أرض الله، بها وبأهلها تكفّل المولىٰ سبحانه، وعنها قال المصطفىٰ صلّى الله عليه وسلّم: "إذا فسد أهل الشّام فلا خير فيكم". وقال: "اللهم بارك لنا في شامنا".. أرض المحشر والمنشر، فطوبىٰ لكِ يا مَن بسطتِ الملائكة عليك بأجنحتها.
"يا دمشق البسي دموعي سوارًا.. وتمني فكل شيء يهون.. وضعي طرحة العروس لأجلي.. إنّ مهر المناضلات ثمين.. رضي الله ورسوله عن الشّام.. فنصرٌ آتٍ وفتحٌ مبين.. مزّقي يا دمشق خارطة الذّل .. وقولي للدهر كن فيكون.. كَتب الله أن تكوني دمشقا.. بك يبدأ وينتهي التّكوين".
وماذا ستقول يا «نزار» ثانيةً حين تنظر لشامك الآن.. حيث مات الضّمير.. وبيعت الكرامة.. وقُتلت الأطفال بأيد وقحة.. وأدمت عين البراءة، واختلط التّآمر بالخيانة والذّل والتّمزيق والذّبح.. وتدنّس الطُّهر.. واغتيلت الأحلام.. وبُقرت الأرحام، وأصبح أهل سوريا ما بين هاربٍ ونازحٍ ولاجيءٍ ومهجّرٍ وقتيلٍ وذبيحٍ.. وخائن !!
بكت عليهم دورٌ مهدّمةٌ معتمةٌ حزينةٌ بدمع عينٍ لا يجف، وحلّت الغُمّة محل غيمة المطر حين تنتهك الحرائر ويُباح الشّرف وتُزف الجثث في جنائز !! ويرتع القهر والجوع والتّشرد على بقايا عظامٍ وبقايا مقابرٍ وبقايا وطنٍ لا يكِفّون عن اغتياله !! وعرب كانوا وما يزالون وسيزالون يتفرجون على عيون أطفال تختصر الحكايا !!
بكت مآذن الجامع الأمويّ٬ وذُبحت حمائمه٬ وفقد سوق الحميدية بهجته٬ وتعكّر الشّاطئ الأزرق، وتوقفت نواعير حماة٬ ونُهبت التّكية السّلمانية٬ وانتّهك مقام النّبيّ: «هابيل» والسّيدتان: «زينب ورقية»، ودُنس مرقد «أبي موسىٰ الأشعري»ّ٬ و«كعب الأحبار»٬ و«رابعة العدوية»٬ والرّاشد «عمر بن عبد العزيز»، وطار لب «معاوية بن أبي سفيان» و«عبد الملك بن مروان» و«بلال بن رباح» و«خالد بن الوليد» من هول ما تتعرض له الشّام، وعزفت كنائس الرّسول «بولس ومعلولا وجبعدين» لحنًا جنائزيًّا.
تحسّر جبل «قيسون» علىٰ الإمام: «الألبانيّ» و«ابن عساكر» و«الذّهبي» و«ابن تيمية» و«ابن القيم الجوزية»، وسكتت أغاني «الأصبهاني» وأشعار «المتنبي» و«أبي فراس الحمدانيّ»، ومُزق «رياض الصّالحين» و«نزهة المشتاقين» و«مدارج السّالكين» و«عمدة الطّالبين»، ومات ثانيةً كمدًا وحسرةً «نزار قباني» و«الماغوط» و«بشار الموصليّ» و«مُحيي الدّين بن عربي» !!
"اخلع نعليك في سوريا فترابها دماء إسلامية عربية".. هكذا ينبهنا أهلوها، فإلىٰ متىٰ يا دمشق تقفين علىٰ بقايا عظام كبريائك ؟! ومتىٰ تهزمين الموت ؟! دمشق يا كنز الأحلام.. نشكو العروبة أم نشكو العرب ؟!
دمشق يا عشق «نزار»: "يا دمشق التي تفشىٰ شذاها تحت جلدي كأنه الزّيزفون.. احتضنني ولا تناقشي جنوني.. ذروة العقل يا حبيبي الجنون.. احتضنني خمسين ألفّا وألفا.. فمع الضّم لا يجوز السّكون.. أهي مجنونة بشوقي إليها هذه الشّام أم أنا المجنون ؟!.. كيف أهواك والحمىٰ مستباح.. هل من السّهل أن يحب السّجين .. غير أن الهوىٰ يصير ذليلًا.. كلما ذلّ للرجال جبين".
فمتىٰ تمزقين يا دمشق خريطة الذّل والانكسار.. متىٰ ؟
---------------------------------
بقلم: حورية عبيدة